فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {إِن تتُوبا إِلى الله} خطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما والتوبة من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء {فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} أي عدلت ومالت عن الحق، وهو حق الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حق عظيم يوجد فيه استحقاق العتاب بأدنى تقصير وجواب الشرط محذوف للعلم به على تقدير: كان خيرا لكما، والمراد بالجمع في قوله تعالى: {قُلُوبُكُما} التثنية، قال الفراء: وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح اثنان إثنان في الإنسان كاليدين والرجلين والعينين، فلما جرى أكثره على ذلك ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب الإثنين، وقد مر هذا، وقوله تعالى: {وإِن تظاهرا عليْهِ} أي وإن تعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء {فإِنّ الله هُو مولاه} أي لم يضره ذلك التظاهر منكما {ومولاه} أي وليه وناصره {وجِبْرِيلُ} رأس الكروبيين، قرن ذكره بذكره مفردا له من الملائكة تعظيما له وإظهارا لمكانته (عنده) {وصالح الْمُؤْمِنِين}.
قال ابن عباس: يريد أبا بكر وعمر مواليين النبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه، وناصرين له، وهو قول المقاتلين، وقال الضحاك خيارالمؤمنين، وقيل من صلح من المؤمنين، أي كل من آمن وعمل صالحا، وقيل: من برئ منهم من النفاق، وقيل: الأنبياء كلهم، وقيل: الخلفاء وقيل: الصحابة، وصالح هاهنا ينوب عن الجمع، ويجوز أن يراد به الواحد والجمع، وقوله تعالى: {والملائكة بعْد ذلك} أي بعد حضرة الله وجبريل وصالح المؤمنين {ظهِيرٍ} أي فوج مظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعوان له وظهير في معنى الظهراء، كقوله: {وحسُن أولئك رفِيقا} [النساء: 69] قال الفراء: والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير، قال أبو علي: وقد جاء فعيل مفردا يراد به الكثرة كقوله تعالى: {ولا يسْئلُ حمِيمٌ حمِيما يُبصّرُونهُمْ} [المعارج: 10، 11] ثم خوف نساءه بقوله تعالى: {عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ أزواجا خيْرا مّنكُنّ} قال المفسرون: عسى من الله واجب، وقرأ أهل الكوفة {أن يُبْدِلهُ} بالتخفيف، ثم إنه تعالى كان عالما أنه لا يطلقهن لكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهم تخويفا لهن، والأكثر في قوله: {طلّقكُنّ} الإظهار، وعن أبي عمرو إدغام القاف في الكاف، لأنهما من حروف الفم، ثم وصف الأزواج اللاتي كان يبدله فقال: {مسلمات} أي خاضعات لله بالطاعة {مؤمنات} مصدقات بتوحيد الله تعالى مخلصات {قانتات} طائعات، وقيل: قائمات بالليل للصلاة، وهذا أشبه لأنه ذكر السائحات بعد هذا والسائحات الصائمات، فلزم أن يكون قيام الليل مع صيام النهار، وقرئ {سيحات}، وهي أبلغ وقيل للصائم: سائح لأن السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد من يطعمه فشبه بالصائم الذي يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: سائحات مهاجرات، ثم قال تعالى: {ثيبات وأبْكارا} لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار، فالذكر على حسب ما وقع، وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ليس على حسب الشهوة والرغبة، بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى.
وفي الآية مباحث:
البحث الأول:
قوله: {بعْد ذلِك} تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقرئ {تظاهرا} و{تتظاهرا} و{تظهرا}.
البحث الثاني:
كيف يكون المبدلات خيرا منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ نقول: إذا طلقهن الرسول لعصيانهن له، وإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله خيرا منهن.
البحث الثالث:
قوله: {مسلمات مؤمنات} يوهم التكرار، والمسلمات والمؤمنات على السواء؟ نقول: الإسلام هو التصديق باللسان والإيمان هو التصديق بالقلب، وقد لا يتوافقان فقوله: {مسلمات مؤمنات} تحقيق للتصديق بالقلب واللسان.
البحث الرابع:
قال تعالى: {ثيبات وأبْكارا} بواو العطف، ولم يقل: فيما عداهما بواو العطف، نقول: قال في (الكشاف): إنها صفتان متنافيتان، لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات.
(فلم يكن بد من الواو).
البحث الخامس:
ذكر الثيبات في مقام المدح وهي من جملة ما يقلل رغبة الرجال إليهن.
نقول: يمكن أن يكون البعض من الثيب خيرا بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول لاختصاصهن بالمال والجمال، أو النسب، أو المجموع مثلا، وإذا كان كذلك فلا يقدح ذكر الثيب في المدح لجواز أن يكون المراد مثل ما ذكرناه من الثيب. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِن تتُوبآ إِلى الله} يعني حفصة وعائشة، حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} أي زاغت ومالت عن الحق.
وهو أنهما أحبّتا ما كرِه النبيّ صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحبّ العسل والنساء.
قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرّهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرّهما ما كرِهه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوبة.
وقال: {فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشّيئين من اثنين جمعوهما، لأنه لا يُشْكل.
وقد مضى هذا المعنى في (المائدة) في قوله تعالى: {فاقطعوا أيْدِيهُما} [المائدة: 38].
وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف.
وليس قوله: {فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} جزاء للشرط، لأن هذا الصّغْو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به.
أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما.
قوله تعالى: {وإِن تظاهرا عليْهِ} أي تتظاهرا وتتعاونا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثتُ سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة.
قال فقلت له: والله إنْ كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك.
قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلْني عنه، فإن كنتُ أعلمه أخبرتك...
وذكر الحديث.
{فإِنّ الله هُو موْلاهُ} أي ولِيّه وناصره، فلا يضرّه ذلك التظاهر منهما.
{وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} قال عكرمة وسعيد بن جُبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما.
وقيل: صالح المؤمنين عليّ رضي الله عنه.
وقيل: خيار المؤمنين.
وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: {والعصر إِنّ الإنسان ل في خُسْرٍ}، قاله الطّبرِي.
وقيل: {وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} هم الأنبياء، قاله العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان.
وقال ابن زيد: هم الملائكة.
السدّي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: {وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه.
كما جاءت أشياء في المصحف متنوّع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدّثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
«لما اعتزل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينْكُتُونُ بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وذلك قبل أن يُؤْمرْن بالحجاب.
فقال عمر: فقلت لأعْلمنّ ذلك اليوم، قال فدخلتُ على عائشة فقلت: يابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مالي ومالك يابن الخطاب! عليك بِعيْبتِك قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد علمتِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُحّبكِ، ولولا أنا لطلّقكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبكت أشدّ البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانته في الْمشْرُبة.
فدخلت فإذا أنا بِرباحٍ غلامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أُسْكُفّةِ المشْرُبة مُدلٍّ رجليه على نقِيرٍ من خشب، وهو جِذع يرْقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر.
فناديت: يا رباح، استأذِن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا.
ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا.
ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذِن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنّ أني جئتُ من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنُقُها لأضربنّ عنقها، ورفعت صوتي فأوْمأ إليّ أن ارْقهْ؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدْنى عليه إزاره وليس عليه غيرُه؛ وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، فنظرت ببصري في خِزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بِقبْضةٍ من شعيرٍ نحوِ الصاع، ومِثلِها قرظا في ناحية الغُرفْة؛ وإذا أفِيقٌ معلّق قال فابتدرتْ عيناي.
قال: ما يُبْكيك يابن الخطاب؟ قلت: يا نبيّ الله، ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيْصرُ وكِسْرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفْوتُه، وهذه خِزانتك! فقال: يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا. قلت: بلى.
قال: ودخلتُ عليه حين دخلتُ وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشقّ عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلّقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك.
وقلّما تكلّمتُ وأحْمدُ الله بكلامٍ إلا رجوتُ أن يكون الله عز وجل يُصدّق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التّخيير: {عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِّنكُنّ}.
{وإِن تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ}.
وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفْصةُ تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: يا رسول الله، أطلّقتهنّ؟ قال: لا.
قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينْكُتُون بالجصى يقولون: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلّقهن؟ قال: نعم إن شئت.
فلم أزل أحدّثه حتى تحسّر الغضبُ عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغْرا.
ثم نزل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ونزلتُ؛ فنزلت أتشبّث بالجذْع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسّه بيده.
فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين.
قال: إن الشهر يكون تسعا وعشرين. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.
ونزلت هذه الآية: {وإِذا جاءهُمْ أمْرٌ مِّن الأمن أوِ الخوف أذاعُواْ بِهِ ولوْ ردُّوهُ إِلى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لعلِمهُ الذين يسْتنْبِطُونهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
فكنت أنا استنبطتُ ذلك الأمر؛ وأنزل الله آية التخيير»
.
قوله تعالى: {وجِبْرِيلُ} فيه لغات تقدّمت في سورة (البقرة).
ويجوز أن يكون معطوفا على {موْلاهُ} والمعنى: الله ولِيُّهُ وجبريلُ ولِيّهُ؛ فلا يوقف على {موْلاهُ} ويوقف على {جِبْريلُ} ويكون {وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} مبتدأ {والْملائِكةُ} معطوفا عليه.
و {ظهِيرٌ} خبرا؛ وهو بمعنى الجمع.
وصالح المؤمنين أبو بكر؛ قاله المسيّب بن شريك.
وقال سعيد بن جُبير: عمر.
وقال عكرمة: أبو بكر وعمر.
وروى شقيق عن عبد الله: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر.
وقيل: هو عليّ.
عن أسماء بنت عُميْس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «{وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} عليّ بن أبي طالب» وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه.
ويجوز أن يكون {وجِبْرِيلُ} مبتدأ وما بعده معطوفا عليه.
والخبر {ظهِيرٌ} وهو بمعنى الجمع أيضا.
فيوقف على هذا على {موْلاهُ}.
ويجوز أن يكون {وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} معطوفا على {موْلاهُ} فيوقف على {المؤمنين} ويكون {والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ} ابتداء وخبرا.
ومعنى {ظهيرٌ} أعوان.
وهو بمعنى ظهراء؛ كقوله تعالى: {وحسُن أولئك رفِيقا} [النساء: 69].
وقال أبو عليّ: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: {ولا يسْألُ حمِيمٌ حمِيما يُبصّرُونهُمْ}
[المعارج: 10-11].
وقيل: كان التظاهر منهما في التحكّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهنّ.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأُذن له، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا قال فقال لأقولن شيئا أُضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارِجة سألتني النفقة فقمتُ إليها فوجأْتُ عُنُقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هُنّ حوْلي كما ترى يسألْنني النفقة.
فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عنقها؛ وقام عمر إلى حفصة يجأُ عنقها؛ كلاهما يقول: تسْألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده.
ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين.
ثم نزلت عليه هذه الآية: {يا أيها النبي قُل لأزْواجِك حتى بلغ للمُحْسِناتِ مِنكُنّ أجْرا عظِيما} [الأحزاب: 28-29] الحديث»
.
وقد ذكره في سورة (الأحزاب).
قوله تعالى: {عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ}
قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه.
ثم قيل: كل {عسى} في القرآن واجبٌ؛ إلا هذا.
وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علّقه بشرط وهو التطليق ولم يطلّقهن.
{أن يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِّنكُنّ} لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلّقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال معناه السُّدّي.
وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، لو طلّقهن في الدنيا أن يزوّجه في الدنيا نساء خيرا منهن.
وقرئ {أن يبدله} بالتشديد والتخفيف.
والتبديل والإبدال بمعنى، كالتنزيل والإنزال.
والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلّقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن.
وهو كقوله تعالى: {وإِن تتولّوْاْ يسْتبْدِلْ قوْما غيْركُمْ} [محمد: 38].
وهو إخبار عن القدرة وتخويفٌ لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {مُسْلِماتٍ} يعني مُخلصات، قاله سعيد بن جُبير.
وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله.
{مُّؤْمِناتٍ} مصدّقات بما أُمِرن به ونُهين عنه.
{قانِتاتٍ} مطيعات.
والقنوت: الطاعة.
وقد تقدّم.
{تائِباتٍ} أي من ذنوبهن؛ قاله السُّدّيّ.
وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن.
{عابِداتٍ} أي كثيرات العبادة لله تعالى.
وقال ابن عباس: كلّ عبادة في القرآن فهو التوحيد.
{سائِحاتٍ} صائبات؛ قاله ابن عباس والحسن وابن جُبير.
وقال زيد ابن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات.
قال زيد: وليس في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة.
والسِّياحة الجولان في الأرض.
وقال الفرّاء والقُتبِيّ وغيرهما: سُمّي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام.
وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل؛ من ساح الماء إذا ذهب.
وقد مضى في سورة {براءة} والحمد لله.
{ثيِّباتٍ وأبْكارا} أي منهن ثيِّبٌ ومنهن بِكْرٌ.
وقيل: إنما سُمِّيت الثّيِّب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها.
وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها.
وهذا أصح؛ لأنه ليس كل ثيّب تعود إلى زوج.
وأما البِكْرُ فهي العذراء؛ سُمِّيت بِكّرا لأنها على أوّل حالتها التي خُلقت بها.
وقال الكلبي: أراد بالثّيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم ابنة عمران.
قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعدٌ من الله لنبيّه لو طلّقهنّ في الدنيا زوّجه في الآخرة خيرا منهن.
والله أعلم. اهـ.